روزنامة التفكير"فلسفة نقّار الخشب"

استمع
لا بأس أن نعود إلى الحلول الأولية كرحلة عبر الزمن، من تقليب صفحات الكلاسيكيات القديمة، حول ما تمخضت عنه العصور القديمة والمتقادمة، للعودة دائما إلى الطبيعة وما يشابهها، وإلى ما هو أبعد من التعليم أو أن نرجع إلى البدايات الأولى، وإلى ما يسمى العود الأبدي أو كما يعرف أيضا بالتكرار الأبدي، كونه قانون وسنة كونية أولية محكومة بالتكرار وعودة كل شيء، وإلى حقيقة أن التكرار يقود إلى حتمية تحقق الهدف، أو أن نتوجه إلى هناك، حيث بدايات ظهور المدرسة السلوكية عن التدريب والتكرار على يد العالم ثورندايك، ولا ريب أن تجد في عصرنا الرقمي هذا بنصيحة عابرة على لسان الجدات لتأخذك إلى عقود من الزمان، حول تلك الحلول المنبثقة من الواقع، وحسب المقولة المتداولة: "التكرار يعلم الشطار"، لنتذكر مقولة جاك كانفيليد: "العادة وليدة التكرار".

هناك في الغابات البعيدة حيث نقّار الخشب، بنقراته المتتابعة ذات الطابع التواتري، وبتكرار متمرس وليس تكرارا عشوائيا محضا فحسب، بل هي نقرات نحو سيرورة الهدف أو الفكرة، أو أنه أكثر من ذلك ليكون فلسفة تتربع عرش الطرائق الفكرية، فالتكرار هو ما يحفر جذع الشجرة المتين، وليس قوة المنقار وشدة ضرباته.

فكرة التكرار تلك ليست بالجديدة بلا شك، لكن استنادا للمقولة الرائجة: "خلق شيء جديد من آخر قديم"، فإن هذه السطور ستقدم التكرار على نحو مختلف، لنعيد المجد فيه كفلسفة قادرة على إثبات قدرتها عبر مر العصور في تحقيق الهدف، فبالتكرار تنتقل من ضفة إلى ضفة أخرى، ومن عدمية الشيء إلى وجوده.

نعرضه كنهج يقلّص من غفلة الذهن ويزيد من يقظته، وصولا إلى التكرار في عادات التفكير، وما يحدثه من نقلات فكرية كبرى، عبر شحذ الخطوات الواعية، والتي تتظافر مع الانتظار المرتقب، وبحدس لا يتعارض مع الهدف بل يعززه، إلى أن تكون قادرا على التكهن بما هو قادم.

لنعود بالتكرار كعشبة سحرية، بحاجة إلى معالجة عصرية لتقديمها كمكمّل فريد وداعم للعملية الإبداعية، فذلك التكرار الذي نقوم به يوما بعد يوم هو من يصنع الفرق الحقيقي، فكما يقول أورتيجا جاسيت: "أخبرني إلى ماذا تنتبه، أخبرك من أنت"، وليكون ذلك التكرار كتراتيل تدنيك من الهدف.

ننحاز إلى التكرار مع تركيز الذهن لتحقق العملية الإبداعية، ولطالما أعتبر التكرار بهذه الأهمية في صقل الأشياء، وأن يكون ذا مقدرة ليقتادك إلى حيث تريد، فلا بد ولمن الأجدى تقديمه بلغة ذات طابع رقمي بصري، ولننتقل بالتكرار من كونه اعتياديا، ولا يعطي ثمارا حقيقية ذات جودة عالية، إلى تكرار يشكل روابط افتراضية تمكنه من الضربة القاضية، فالمهام مع التكرار لا تنجز في لحظتها، بل أن تلك الخطوات المتتابعة كفسيفساء لا تنفك عن بعضها البعض نحو تحقق التعلم وإنجاز الهدف.

ليكون التكرار منتظما تسير معه بالتوازي التغذية الفكرية والبصرية، لكل ما يدعم ويساند في تحقيق الهدف، كما أن معرفة جزئيات الهدف وتفاصيله الدقيقة كخطوات تجتازها يوما بعد يوم سيختصر عليك الطريق، ليكون لكل تكرار معنى متحقق، عبر تفكيكه إلى مكوناته للوصول إلى التآلف الكلّي للهدف، عبر مسلسل متتابع من التكرارات تربط ما بين المتآلفات، عبر ربط مراحل الهدف المتباعدة والتقريب بينها بالتكرار.

كما أن التكرار مع توارد الصورة النهائية للهدف سيدفعك قدما إلى الأمام، ومع تزايد معرفتك واطلاعك على تراكمات المعرفة القبلية سيوفر عليك الجهد ويناقص الخطأ والوقت المهدور.

مع عدم تجاهل حقيقة أن تقسيم العمل إلى وحدات أصغر تجتازها مرة بعد مرة أثناء رحلة التكرار، يقرّب من المسافات الطويلة المؤدية إلى الهدف، في محاولة لا مناص منها للتأليف من شظايا التكرارات المتلاحقة، فكما يقال: "كل عليّة تتجلّى في تفاصيل الأحوال".

والأهم من ذلك أن التكرار لا بد أن يبدأ من الداخل أولا، فالأشياء في الخارج ومن الجانب المنظور تمضي قدما إلى الأمام، لكن سبقها في ذلك حياة من الداخل ملؤها الأفكار، ولذا علينا أن نبدأ بتكرار الأفكار التي تود تحقيقها من الأساس، ففي الخارج انعكاس لما في الداخل، وأختم قولي بمقولة سقراط: "لكي تحرك العالم يجب أولا أن تحرك نفسك".

تعليقات

المشاركات الشائعة