التقاطعات الفكرية
يُبحر القارئ النهم على صفحات الكتب، بزورق يتتبع فيه تلك الكلمات المتماوجة ما بين الأسطر، غير آبها بتقلبات المعرفة، ممنيا نفسه العبور بها نحو ساحل النجاة، محمّلا بكنوز من المعرفة، يعرف قدرها جيدا، إلا أن بعض القراء وبعد رحلتهم القرائية يعودون محملين بكنوز أقل بكثير مما يحتويه الكتاب.
فالقراءة أشبه باجتياز متاهة فكرية، مليئة بالانحدارات والمنعطفات، يتيه فيها القارئ، وعليه أن يضمر في نفسه أن ينقب عن الكامن من الأفكار، وفك التراكيب المبهمة والغامضة، وأن يلتفت بحذر إلى الإشارات التي تقفز في ذهنه، وتتراءى له من بين السطور كومضة بارقة خاطفة، والتي تقف خـلف البناء المعرفي الذي يعجّ بالأفكار والمعارف.
وعلى القارئ استنفاد كل المخزون الدلالي المرصوص داخل سياق النص، فالمعنى لا يكتمل إلا بعد رحلة بحث من القارئ نفسه، لنظم كل المتآلفات، وفق مسالك ودروب رصنت بالأفكار، وعلى نحو تبدو فيه عصيةً عن الفهم وفك الترابطات.
فتلك النصوص التي استوطنت وجداننا كانت تقف خلفها شروحات ومناهج تحتفي بها، كما أن تلك الأدبيات وكلاسيكيات الفلسفة وأمهات الكتب جاءت من بعدها مجلدات من الشروحات والتعقيبات من المعلمين، والكثير من التراجم والتي لا يشترط فيها أن تكون من لغة إلى أخرى، بل أن بعض التراجم جاءت كشروحات من ذات لغة الكتاب، تساعد القارئ على إكمال رحلة القراءة، وتدارس الكتاب مع توفير كل وسائل الإفهام والإيضاح، كهوامش في الكتاب ذاته، أو شروحات لمخططات الكتب السابقة.
فكما أن للكاتب رحلته الفكرية في النص الذي يقدمه أيًا كان شكله، وعليه أن يكمله ويجتازه إلى نقطة النهاية، فإن شأن القارئ أيضا إكمال القراءة على نحو تام، قراءة متقصية ولا تكون قراءته لمجرد تمرير إصبعه أو متابعة الكلمات بعينيه، لتكون الحصيلة المعرفية عرضية، بل يكون ضليعا في الشروحات والاقتباسات المأثورة، منقبا عن المعرفة التي لا تأتي بتفاصيل متشابهة، فيكون بذلك لكلّ مهمته على السواء، فهما كليهما (الكاتب والقارئ) له مهمته في اكتمال المعرفة، فلا يكتمل الكتاب إلا بقارئه.
وعلى غرار ونهج المثل الرائج "أعط الخبز خبازه ولو أكل نصفه"، فإن رحلة القراءة مع الفهم هي من اختصاص القارئ وحده، وليس على الكاتب أن يقدم الشروحات والتوضيحات، لكن ماذا لو قام الكاتب بدور القارئ في استنباط الشروحات؟، وأعطى لكل نص مفتاحا يتضمن اختصارات تنقذ القارئ من غفلته وشروده أثناء القراءة، كأن يستخلص من النص عمقه، ومن الأسطر جوهرها، ومن الكلمات بليغ رسالتها، كومضة تتشابه مع دوران المفاتيح على الأقفال، لتكون المعرفة متاحة ومتحققة على نحو أيسر.
مهما بدا الأمر مرضيا ومقنعا، إلا أن النص بتجلياته اللغوية لابدّ أن تتشابه مع شيء يشبه القارئ، فكما يقول أشو "يميل الناس إلى قراءة أنفسهم في الكتاب"، وأن الكاتب بتقديم شروحاته فإنه يقيّد حرية القارئ، بأن يلائم النص مع مداركه ليكتسب الخبرة بتجربة منه، وليس محض إرشادات وتعليمات ثابتة، وذلك ما أكده المهاتما غاندي: "أوقية من الخبرة تساوي أكثر من طن من الوعظ".
فالطاقة المتدفقة من النص باعثة على ما هو أهم من المعرفة ذاتها إلى الحد الذي يبدو معها تقديم شروحات مجردة أمرًا زائفا، فهي تصحبك وتأخذ بيدك نحو تجربتك التي تسير بالتوازي مع رؤية الكاتب وفكره، ليكون لك رأيك ومنطقك الخاص الذي يتلاءم مع حياتك الذي لا يشابهها، ولا تتكرر على الإطلاق.
فتلكم المعارف والخبرات؛ قد تراكمت على مر السنين، ولعل بعضها كانت تجارب لشعوب قديمة تمظهرت في أفكار الكاتب، فنقلها بعد أن أضاف إليها من مكنونات خبرة زمانه، لتستلم أنت زمام الأمر، وتكون لك إضافتك الخاصة عن طريق التجربة، فالتجربة هي جوهر التعلم وحقيقته.
فالكاتب الذي يقدم المعرفة بتجليات لغوية عميقة مهما بدت معقدة ومحكمة الإغلاق، إلا أنها باعث قوي على تعلم تلك المعارف، على نحو منبثق ومتدفق من الداخل، فأنت تتشارك مع الكاتب في صنع فكرة طرحها الكاتب، وبما يتلاءم مع تجربتك، كما أن المعرفة ليست معلومات مجردة فقط، بل أن مصدر المعرفة هو التجربة والخبرة، وكثيرة هي الآيات القرآنية التي تدعو إلى التفكر والتدبر.
تعمدت إثارة الفكرة السابقة بعد أن طلب مني أحدهم تبسيط ما أكتب في سلسلة مقالاتي "روزنامة التفكير"، أو أن تكون على شاكلة مفاتيح فكرية معينة على التفكير وتختصره، وبعد أن أخبرني آخر بأن ينوي عمل سلسلة شروحات لروزنامة التفكير، فكتبت ما سبق وما هو تالٍ.
وكمحاولة للإقناع سأذكر نماذج مختصر لتعليم التفكير وفق التقاطعات الفكرية التي يتحقق من خلالها الهدف:
(فنقول مثلا التكرار كحل ناجع ضد النسيان، والخارطة الذهنية رسما وتصورا في سبيل زيادة نسبة المحفوظات، والتغلب على صعوبة الفهم وبطئه عن طريق الثراء اللغوي والمعرفي وتوسيع دائرة الإدراك، واحتساب النقاط أو ما يمكن تسميته بالخطوات الصغيرة للتقريب من ذلك الهدف البعيد، ولتكون الأشياء التي نحب في مقابل تلك التي نقبلها على مضض لتحقيق التوازن بين كفتي الدماغ الأيمن والأيسر، وتحقيق الإبداع عبر الخطوات المتتابعة التي تتسلّق على نحو عمودي وليس أفقيا).
سيكون القارئ بلا شك سعيدا بتلك المفاتيح المعينة والحلول الفكرية التي باتت الآن بين يديه، إلا أن مثل هذا النمط من الكتابة يحدد المعرفة ويؤطرها، ضمن نمط قاصر على خبرة الكاتب ومن سبقوه، باعتبار أن المعرفة تسير دوما على نحو تراكمي، فلا تنتهي المعرفة عند ذلك الحد فقط، بل لابد أن تقدم بالطريقة التي تتقاطع فيها مع خبرة القارئ، ليعرف أن "الحل يكمن في التقاطعات".
فليست هناك حلول ثابتة محدودة للمسائل المطروحة، فدوما هناك وجهات نظر تنبثق من تقاطع المعرفة بمنظومته الفكرية الخاصة برؤيته الشخصية.
ليكون بذلك اقتصر على رأي الكاتب، وحلوله الخاصة، وقبِل بها بلا أي عناء للتجربة والتي هي عماد للمعرفة، كما يقول غوته الكاتب الفنان: "المعرفة وحدها لا تكفي، لابدّ أن يصاحبها التطبيق"، بدون أن تكون له تصوراته الخاصة التي يستقيها من نص الكاتب المتقد بالفكر.
فالقارئ يريد امتلاك المعرفة كنتيجة سببية وحتمية لقراءاته، إلا أن المعرفة الحقيقية لا تكتمل إلا به، عبر التجربة وموائمة الأفكار مع واقعه، ليكون قارئا ناقدا ينأى بنقده عن ما يسمى بمغالطة رجل القش، الذي يدحض النظرية بلا قياس منطقي، فالكتاب يكتمل بالقارئ كعلاقة أزلية بينهما لا يمكن الفكاك منها، فكما أن كل كتاب ثمرة تجارب ومعارف الكاتب، فإن تلك المعارف لا تكتمل وتتحقق إلا بتجارب القارئ وخبرته الشخصية، ليكون قادرا بعدها على الإضافة عليها ونقدها للأجيال القادمة، لتستمر المنظومة المعرفية منهلا لا ينضب، ليكون بذلك النص الأعظم يقاس بمدى التأثير وليس بمقدار المعلومات وكثافتها
تعليقات
إرسال تعليق